بين تعليم الفرنسية وتعليم العربية       

   Méthodes D'Enseignement Du Français et de L'Arabe   

 

تلقى عابد أستاذ اللغة العربية الجزائري رسالة من صديقه وجدي أستاذ الموسيقى المصري يعلمه فيها بأنه أمضى شهر جويلية "يوليو" في فرنسا يتعلم اللغة الفرنسية في دورة صيفية قضى نصفها في جامعة "بيزانسون" ونصفها في "ديجون" ويحدثه عن منهج الدراسة ونتابع مع عابد قراءة الجزء الأخير من الرسالة:

عدت إلى رسالة وجدي متابعا القراءة: "أما المنهج فمعظمه نصوص أدبية روائية ومسرحية وأغان عصرية. وفي المساء هناك نشاطات مسرحية وحفلات راقصة ورحلات في نهاية الأسبوع إلى منطقة الجورا التي سحرتني بطبيعتها الخلابة".     

"التقيت قبل مغادرة بيزانسون بالأستاذة مارتا دانيال مع مجموعة من أساتذة الفرنسية الجزائريين يتابعون دورة يشارك فيها أساتذة الفرنسية في العالم لتطوير تعليمها. تذكرتك وتذكرت أساتذة اللغة العربية. كان الله في عونهم. من يهتم بهم وبالعربية وبتطوير تدريسها؟"

آلمتني ملاحظة وجدي لأنها في محلها، وتوقفت متأملا أوضاع تكوين معلمي العربية عندنا والاهتمام بالكم على حساب الكيف ثم تابعت القراءة: "أما في ديجون فكانت نصوص الدورة الجامعية التي تنظمها الجامعة أكثر كلاسيكية واهتماما بالقواعد والإملاء. وفي المساء تعطى دروس في الرقص الفولكلوري لمنطقة بورجون، وفي أغانيها الشهيرة." 

وفي يوم السبت آخر الأسبوع استضافت التلاميذ عائلات فرنسية في بلدة "بلينيي سور حوش" وهو اسم النهر الذي تقع البلدة على ضفته. لم أدرك من قبل أن الضيافة في منطقة "بورجون" تعني تذوق خمورها المشهورة مع الطعام. استضافتني عائلة مكونة من الأب الموظف في البلدية، والأم المدرسة في الثانوي، وابنتهما الطالبة في كلية الحقوق. المنزل ريفي مدني تحيط به حديقة جميلة. قدموا لي لحظة وصولي كأسا من الخمر فاعتذرت، وأعتقد أنهم نعوا سوء حظهم الذي أوقع من لا يشرب الخمر في قرعتهم. ولو كنت أستطيع أن أجاملهم لفعلت ولكن لا يجامل الإنسان في معتقده وصحته. مع ذلك بشوا في وجهي ولم يظهروا لي إلا ما استطعت استنتاجه من ارتباكهم".   

تأسفت للمأزق الذي وقع فيه وجدي، وتوقعت أنه قضى يوما عصيبا حافلا بالمجاملات، يتبادلها مع مضيفيه، ويحس كل منهم بثقله على الآخر وثقل الآخر عليه. تابعت القراءة دون لهفة كمن يقرأ رواية يعرف آخرها سلفا ولكنه يقرأها لأنها مقررة عليه في المدرسة: "وجدت في المنزل بيانو فاستأذنت في العزف عليه، فوجدت نغماته نشازا وأوتاره تحتاج إلى ضبط. وبما أني أحمل دائما في محفظتي الصغيرة أداة ضبط الأوتار، شددتها حتى استقام صوته وعزفت عليه. كانت ربة البيت وابنتها عازفتان هاويتان فبهرتا بعزفي أيما انبهار. لم يسمح لي مستواي في الفرنسية بالنقاش الجاد، لكن الموسيقا كانت لغة مشتركة وإذا بكل من أفراد الأسرة يحضر لي نوتة لأعزفها. عزفت مقطوعات لبيتهوفن وموزارت وشوبان وشوبير وبيزيه وتشايكوفسكي وكورساكوف والجاز القديم والحديث والأغاني الفرنسية الشائعة ثم عزفت شيئا من الموسيقا الشرقية والألحان المصرية والعربية للقصبجي والسنباطي وعبد الوهاب والرحابنة. كان يوما فريدا أحاطتني به هذه الأسرة الفرنسية بالرعاية والحب والاحترام، حتى أن الأم وابنتها امتنعتا أثناء الطعام عن تناول الخمر إكراما ومجاملة لي. وربما أحستا أن النشوة التي تسمو بك إليها الموسيقا الرفيعة، تعجز عن بلوغها كؤوس خمر بورجون بل باخوس نفسه. شرب الأب وحده واعتذر لأنه لا يستطيع الامتناع."

سررت لحسن تخلص وجدي من المأزق الاجتماعي الذي وقع فيه ووصلت إلى الفقرة الأخيرة في وصف الرحلة: "المهم أنهم أغرقونا في بيزانسون وديجون بالنصوص الأدبية الشعرية والروائية والمسرحية والتاريخية والأغاني العصرية والفولكلورية. وهم يسوقون حضارتهم مع دورات اللغة، والدولة تساهم مساهمة كبيرة في دعم هذه المعاهد."

قارنت بين تعليم اللغة في البلدان المتقدمة وتعليم العربية عندنا. الفرق شاسع بين المناهج، فمناهجنا قديمة لا تساير العصر ولا تعكس ما يجري في الحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولا صلة بينها وبين الرواية والمسرح والسينما الجزائرية والعربية والعالمية النابعة من  الواقع. والأستاذ يبقى حبيس هذه المناهج، يطبق نصوصها حرفيا ولا يسمح له بالخروج عن نطاقها. ولا يستفيد من دورات خاصة تشرف عليها اليونسكو والأليكسو لتبادل الأفكار بين أساتذة العربية في البلدان العربية وتجديد معلوماتهم كما كان يجري سابقا. وليس تدريس العربية في معظم بلدان المشرق بأفضل منه عندنا ما دامت الدولة تحتكر التأليف وإعداد المناهج والبرامج فكلنا في الهم شرق.

 

                              عبد الله خمّار               

                            من رواية "جرس الدّخول إلى الحصّة"                      

 13- العطلة الصيفية: اللغة جسر إلى القلوب والعقول